الفصل الأول

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين . فإن رسالة الله : إما إخبار ، و إما إنشاء . فالإخبار عن نفسه وعن خلقه : مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد . والإنشاء الأمر والنهي والإباحة .
وهذا كما ذكر في أن : (( قل: هو الله أحد )) . تعدل ثلث القرآن؛ لتضمنها ثلث التوحيد ؛ إذ هو قصص ؛ وتوحيد؛ وأمر . وقوله سبحانه في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم ، : ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف: من الآية157) . هو بيان لكمال رسالته ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ، هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ، ونهى عن كل منكر ؛ وأحل كل طيب وحرم كل خبيث ، ولهذا روي عنه أنه قال : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) . وقال في الحديث المتفق عليه : (( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بن داراً فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها : ويقولون : لولا موضع اللبنة ! فأنا تلك اللبنة )).

فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر ، وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث . و أما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات ، كما قال:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(النساء: من الآية160). وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث ، كما قال تعالى :(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاة) (آل عمران: من الآية93).

وتحريم الخبائث يندرج في معنى : (( النهي عن المنكر )) كما أن إحلال الطيبات يندرج في : (( الأمر بالمعروف )) لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه ، وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول ؛ الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف ، وقد قال الله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة: من الآية3) . فقد أكمل الله لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الإسلام ديناً .

وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه) (آل عمران: من الآية110). وقال تعالى :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)(التوبة: من الآية71). ولهذا قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس ، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة .

فبيّن سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس : فهم أنفعهم لهم ، وأعظمهم إحساناً إليهم ، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر ، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد ، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم و أموالهم ، وهذا كمال النفع للخلق .

وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ؛ ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ، ولا جاهدوا على ذلك . بل منهم من لم يجاهد ، والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم ، كما يقاتل الصائل الظالم ؛ لا لدعوة المجاهدين و أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، كما قال موسى لقومه : (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) إلى قوله:( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:21-24) . و قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: من الآية246). فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم و أبنائهم ، ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك ؛ ولهذا لم تحل لهم الغنائم ؛ ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين .